شاشة كاملة

الوساطة الصينية والمصالحة السعودية الإيرانية في عالم متغير

لم يكن الدور الصيني في المصالحة السعودية الإيرانية مجرد صدفة أو مجرّد وساطة تقليدية. فقد برهنّت بكين، من خلال دبلوماسيتها الهادئة والفعالة.
الوساطة الصينية والمصالحة السعودية الإيرانية في عالم متغير

مقدمة

في قلب منطقةٍ لطالما عُرفت بتقلّبها وصراعاتها، فاجأت المملكة العربية السعودية وإيران العالم بإعلان اتفاق تاريخي لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، في 10 مارس 2023، بعد قطيعةٍ دامت سبع سنوات. وجاء هذا الاتفاق، الذي تمّ التوصّل إليه بوساطة صينية، ليهزّ أركان الشرق الأوسط ويُنذر بولادة نظامٍ إقليميٍ جديدٍ تُعيد فيه القوى الإقليمية ترتيب أوراقها وتُعيد تحديد تحالفاتها بعيدًا عن التدخلات الخارجية.

الصين: صانع السلام الجديد في الشرق الأوسط؟

لم يكن الدور الصيني في المصالحة السعودية الإيرانية مجرد صدفة أو مجرّد وساطة تقليدية. فقد برهنّت بكين، من خلال دبلوماسيتها الهادئة والفعّالة، عن رغبتها في لعب دورٍ رئيسيٍّ في حلّ أزمات الشرق الأوسط، نافِسةً بذلك الولايات المتحدة التي هيمنت على المنطقة لعدة عقود.

دوافع بكين للعب دور الوسيط:

  • أمن الطاقة والنّهم الصيني: تُعدّ الصين أكبر مستورد للنفط في العالم، وتستورد من الشرق الأوسط، وتحديدًا من السعودية وإيران، نسبة كبيرة من احتياجاتها الطاقيّة. لذا، فإنّ المصالحة السعودية الإيرانية تُساهم في ضمان استقرار إمدادات الطاقة الصينية وتُجنّبها التورّط في صراعاتٍ إقليميةٍ مُكلفة.

  • منافسة الولايات المتحدة وسياسة ملء الفراغ: تسعى الصين إلى توسيع نفوذها العالمي على حساب الولايات المتحدة، وتستغلّ تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط لتعزيز حضورها كقوةٍ دوليةٍ فاعلة. وتُمثّل الوساطة بين السعودية وإيران فرصةً لبكين لإثبات قدرتها على حلّ الأزمات التي عجزت واشنطن عن حلّها.

  • دعم "الحزام والطريق" وتعزيز الربط القاري: تُعدّ كلٌّ من السعودية وإيران دولًا محورية في مشروع "الحزام والطريق" الصيني، الذي يهدف إلى ربط الصين بالعالم من خلال شبكةٍ من البنى التحتية والاستثمارات. والمصالحة بين البلدين ستُسهّل تنفيذ المشاريع الصينية في المنطقة وتعزيز التعاون الاقتصادي بينها وبين دول الشرق الأوسط.

المصالحة السعودية الإيرانية: براغماتية الخصمين في عالمٍ مُتغيّر

لم تأتِ المصالحة السعودية الإيرانية من فراغ، بل جاءت نتيجة لتحوّلاتٍ عميقة في المشهد الجيوسياسي الإقليمي والدولي، دفعت كلًّا من الرياض وطهران إلى إعادة النظر في حساباتهما واتّباع مقاربةٍ براغماتيّةٍ تُعطي الأولوية للمصالح الوطنية.

السعودية: بين رؤية 2030 وتحديات الأمن والاستقرار:

  • التنويع الدولي وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة: تُدرك السعودية أنّ الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة لم يعد مُجدياً في ظلّ تغيّر أولويات واشنطن وتوجّهها نحو آسيا. وتسعى إلى تنويع تحالفاتها وعلاقاتها الدولية، وتُعدّ المصالحة مع إيران خطوةً في هذا الاتجاه.

  • مواجهة التحديات الأمنية وخطر الصواريخ والمُسيّرات: تواجه السعودية تحدياتٍ أمنيةٍ متزايدةٍ في منطقة الخليج، وتحديدًا من إيران وجماعات الحوثيين في اليمن. وترى أنّ التحاور مع طهران قد يُساهم في تخفيف التوترات والحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة.

  • تعزيز الاستقرار الاقتصادي وجذب الاستثمارات الأجنبية: تُدرك السعودية أهميّة الاستقرار في منطقة الخليج لإنجاح خططها الاقتصادية الطموحة في إطار "رؤية 2030"، وترى أنّ المصالحة مع إيران قد تُساهم في تهدئة الأوضاع في المنطقة وجذب الاستثمارات الأجنبية.

إيران: بين العقوبات والاحتجاجات وحلم كسر العزلة:

  • تخفيف العقوبات الغربية وإنعاش الاقتصاد المُنهَك: تُعاني إيران من أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ نتيجةٍ للعقوبات الأمريكية والأوروبية، وتأمل أن تُساهم المصالحة مع السعودية في تحسين أوّضاعها الاقتصادية من خلال إعادة دمجها في الاقتصاد العالمي وتخفيف بعض العقوبات.

  • كسر العزلة الدولية واختراق جدار الاحتواء الأمريكي: تسعى إيران إلى كسر العزلة الدولية التي تفرضها عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وترى أنّ التقارب مع السعودية قد يُساعدها على تحقيق هذا الهدف.

  • احتواء الاحتجاجات الداخلية وتعزيز شرعية النظام: تُواجه النظام الإيراني ضغوطًا داخليةً متزايدةً نتيجةً للأوضاع الاقتصادية المتردّية وقمع الحريات، ويرى أنّ تحقيق إنجازٍ دبلوماسيٍّ كبيرٍ مثل المصالحة مع السعودية قد يُساعده على امتصاص الغضب الشعبي وتعزيز شرعيّته.

المستقبل المُرتقب: سيناريوهات متعددة لعلاقات سعودية إيرانية جديدة

أثار الاتفاق السعودي الإيراني العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقات بين البلدين ومدى استدامة المصالحة. فهل ستكون بداية لعصر جديد من التعاون والاستقرار؟ أم أنّها مجرد هدنة مؤقتةٍ سرعان ما تنهار أمام تحدّيات الواقع؟

السيناريو الأوّل: طريق التعاون المُفضي إلى شرق أوسط جديد:

يرسم هذا السيناريو صورةً متفائلةً لمستقبل العلاقات السعودية الإيرانية، حيث يفترض أنّ المصالحة ستُمهّد الطريق أمام تعاونٍ اقتصاديٍّ وأمنيٍّ وثيقٍ بين البلدين، وأنّ الرياض وطهران ستعملان معًا من أجل حلّ الأزمات الإقليمية في اليمن وسوريا والعراق ولبنان. كما يفترض هذا السيناريو أنّ المصالحة ستُعزّز من دور الصين في المنطقة على حساب الولايات المتحدة.

السيناريو الثاني: التنافس المحسوب في منطقةٍ رمادية:

يُقدّم هذا السيناريو رؤيةً أكثر واقعيةً لمستقبل العلاقات السعودية الإيرانية، حيث يفترض أنّ المصالحة ستُخفّف من حدة التوتر بين البلدين، لكنّها لن تؤدّي إلى زوال التنافس بينهما بشكلٍ كامل. وستظلّ المنافسة قائمةً بين الرياض وطهران على مراكز النفوذ والقيادة في المنطقة، لكنّها ستكون أكثر عقلانيةً وحسابًا، مما يُتيح فرصةً أكبر أمام التعاون في بعض الملفات ذات المصلحة المشتركة.

السيناريو الثالث: انهيار المصالحة وسيناريو العودة إلى الصفر:

لا يستبعد هذا السيناريو إمكانية انهيار المصالحة السعودية الإيرانية في أي لحظة، خاصةً في ظلّ وجود ملفاتٍ شائكةٍ بين البلدين كالملف النووي الإيراني والأزمة اليمنية. كما أنّ تدخّل قوى دوليةٍ أو إقليميةٍ قد يُؤدّي إلى نسف المصالحة ودفع الطرفين إلى مربع التصعيد من جديد، مما يعيد المنطقة إلى مربع التوتر وعدم الاستقرار.

خاتمة

تُمثّل المصالحة السعودية الإيرانية تحوّلًا جيوسياسيًا مفصليًا في تاريخ الشرق الأوسط، وتُنبئ بمرحلةٍ جديدةٍ من العلاقات بين البلدين ستكون لها تداعياتها على مستقبل المنطقة برمّتها. وستتوقف طبيعة هذه التداعيات على مدى التزام الطرفين بالاتفاق وبناء الثقة بينهما، وكذلك على دور القوى الدولية في دعم المصالحة أو عرقلتها. ويبقى السؤال الأهم: هل ستنجح المصالحة السعودية الإيرانية في طيّ صفحة الماضي ورسم ملامح مستقبلٍ جديدٍ للمنطقة؟ أم أنّها ستكون مجرد فصلٍ قصيرٍ في كتاب الصراعات الذي لا ينتهي في الشرق الأوسط؟

إرسال تعليق

Please dont share any sensitive or personal details here.

Cookie Consent
We serve cookies on this site to analyze traffic, remember your preferences, and optimize your experience.
Oops!
It seems there is something wrong with your internet connection. Please connect to the internet and start browsing again.
AdBlock Detected!
We have detected that you are using adblocking plugin in your browser.
The revenue we earn by the advertisements is used to manage this website, we request you to whitelist our website in your adblocking plugin.
Site is Blocked
Sorry! This site is not available in your country.