استراتيجية الأمن القومي الألماني: الدوافع والمحددات

قبل صدور استراتيجية الأمن القومي الألماني، كانت ألمانيا تعتمد في رسم خططها الدفاعية، وحماية أمنها القومي، على الكتاب الأبيض.

 

استراتيجية الأمن القومي الألماني: الدوافع والمحددات
باسم أيمن يكتب: استراتيجية الأمن القومي الألماني: الدوافع والمحددات

بقلم/ باسم أيمن *طالب بكلية السياسة والاقتصاد جامعة السويس

أصدرت الحكومة الائتلافية في ألمانيا بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتس استراتيجية الأمن القومي الألماني في ١٤ يونيو ٢٠٢٣؛ لمواجهة التهديدات الخارجية الجديدة، ورسم خارطة الطريق لألمانيا على نحو يشمل تعزيز القوة الدفاعية لألمانيا، وتعزيز النفوذ الألماني على المستوي الإقليمي والدولي، وضمان عدم تبعية ألمانيا لأي من القوي الخارجية سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري.

قبل صدور استراتيجية الأمن القومي الألماني، كانت ألمانيا تعتمد في رسم خططها الدفاعية، وحماية أمنها القومي، على الكتاب الأبيض، والذي صُدِرَ لأول مرة في عام ١٩٩٤  بعد توحيد ألمانيا لرسم سياساتها الأمنية، أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي، وسيطرة الولايات المتحدة على النظام الدولي كقوة عظمى وحيدة، وبروز مفهوم العولمة، ويتم تجديد هذا الكتاب في فترات  زمنية تبعاً للمتغيرات الدولية والإقليمية، والأحداث الأمنية والتحولات الجديدة في النظام الدولي، وتم تجديد الكتاب الأبيض  في عام ٢٠٠٦ بعد أحداث ١١ سبتمبر، وظهور فواعل جديدة تتمثل في التنظيمات الإرهابية، وتهديدها للأمن القومي، وكان عام ٢٠١٦ آخر مرة تم فيها إصدار الكتاب الأبيض.

وبعد زيادة حركة التنظيمات الإرهابية في أوروبا، وانتشارها بشكل واسع داخل جدران الاتحاد الأوروبي، وبالإضافة إلى حركات الربيع العربي، وما نتج عنها من تغيرات في طبيعة النظام الإقليمي العربي، وتغير مفهوم التعاون والسياسة الخارجية للعديد من الدول العربية تجاه القوى الغربية، أصبح الكتاب الأبيض غير قادر على تضمين كل المخاطر والتهديدات التي تواجه ألمانيا، وعلى وجه الخصوص بروز الصين كفاعل دولي رئيسي يسعى لأن يكون له دور في النظام الدولي، عن طريق استخدامه للأدوات الاقتصادية في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، وهو ما لم يشمله الكتاب الأبيض، حيث كان يركز بشكل رئيسي على التهديدات الأمنية، دون مراعاة التهديدات والمخاطر الاقتصادية والثقافية.

ومن هنا بدأت الحكومة الألمانية في محاولة لتلاشي هذا القصور عن طريق إعداد استراتيجية للأمن القومي، تشمل المتغيرات الجديدة في النظام الدولي، والتهديدات الأمنية دون مستوي الدول، بالإضافة الي تضمينها التهديدات البيولوجية والكيميائية، وعمليات التجسس، والجرائم السيبرانية.

دوافع صدور استراتيجية الأمن القومي الألماني:

كان هناك مجموعة من العوامل التي دفعت الحكومة الألمانية إلي اتخاذ خطوات عاجلة لإصدار هذه الاستراتيجية، ومنها:

١- مواجهة التهديدات الخارجية:

استراتيجية الأمن القومي الألماني كانت من ضمن البنود الأساسية للحكومة الائتلافية بقيادة شولتس في ديسمبر ٢٠٢١، ولكن بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، سرعت من وتيرة اصدار الاستراتيجية، لمواجهة التهديدات الجيوسياسية والأمنية من روسيا، حيث اعتبرت الاستراتيجية روسيا هي التهديد الأول لألمانيا، ليس فقط من الناحية الأمنية، ولكن أيضاً على صعيد الإمداد الروسي لألمانيا بالطاقة، والذي تستخدمه روسيا كسلاح في مواجهة الدول الغربية، وبالتالي يمكن اعتبار أن هذه الوثيقة جاءت بشكل أساسي رداً على التهديد الروسي للأمن القومي الألماني.

وقد شملت الاستراتيجية التنظيمات الإرهابية، والجماعات الإسلامية، التي تشكل خطراً على الأمن القومي الألماني، حيث تصاعدت العمليات الإرهابية داخل أوروبا بشكل عام وألمانيا بشكل خاص، مما كان له دور في إصدار الاستراتيجية.

وفي خطوة تدعيم الجهاز الدفاعي لألمانيا، تضمنت الاستراتيجية زيادة الإنفاق الدفاعي إلى ٢٪ من إجمالي الناتج المحلي، على غرار السياسات الأمنية لحلف الناتو والتزاما بمسار الناتو في تدعيم القوة الدفاعية للدول الأعضاء، بالإضافة إلى أن الاستراتيجية شملت على زيادة الانتشار العسكري الألماني على أراضي الدول الأعضاء في الناتو، والذي من شأنه أن يعزز من الأمن الإقليمي لهذه الدول.

٢- تنويع مصادر الطاقة والمواد الخام:

 تعتبر ألمانيا من أكبر القوى الصناعية في العالم، وتعتمد بشكل كبير على استيراد المواد الخام، والطاقة التي تحتاجها من الخارج، وعقب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، واستخدام روسيا الطاقة كسلاح في مواجهة الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، انكشفت حالة الضعف التي من الممكن أن تصيب الهيكل الاقتصادي لألمانيا في حالة انسداد الطريق أمام المواد الخام التي تحتاجها للصناعة أو الطاقة، ومن ثم تطرقت الاستراتيجية أنه يجب على ألمانيا تنويع مصادر الطاقة والمواد الخام، وعدم اعتمادها على مصدر واحد في تلبية احتياجاتها.

ووضعت الاستراتيجية بعض الحلول لمواجهة النقص المفاجئ في مصادر الطاقة، منها التوسع في مشروعات الطاقة البديلة، والطاقة المتجددة، وعقد شراكات مع الدول النفطية في الشرق الأوسط، والاتجاه نحو أفريقيا حيث تتوافر المواد الخام والموارد المعدنية بكثافة.

وقد تطرقت الاستراتيجية أيضاً إلى البعد البيئي والمناخ، فقد ركزت على الاستدامة البيئية عند وضعها لهذه السياسات، إذ عملت على إنشاء جهاز بيئي تتمثل المهام الرئيسية له في مراقبة عملية تنفيذ هذه الاستراتيجية مراعاة لعملية الاستدامة البيئية والحفاظ على الموارد، بالتوازي مع التوجه العالمي نحو تحقيق التوازن المناخي.

٣- تدعيم الجهاز الاستخباراتي الألماني:

بعد التصاعد الملحوظ لعميات التجسس الروسية داخل أوروبا، والدول الداعمة لأوكرانيا، إذ قامت روسيا بعمليات تجسس داخل ٤٢ دولة من الدول الداعمة لأوكرانيا، وتمكن جهاز الاستخبارات الروسي من النجاح في ٢٩ ٪ من تلك العمليات، قامت الدول الأوروبية بطرد نحو ٤٠٠ ضابط مخابرات روسي يعملون تحت غطاء دبلوماسي.

من العناصر الأساسية التي ركزت عليها استراتيجية الأمن القومي الألماني هي تدعيم الجهاز الاستخباراتي لألمانيا، حيث تعرض الجهاز إلي العديد من الاختراقات الروسية، والهجمات السيبرانية التي عرضت المعلومات الألمانية لخطر السرقة واستغلالها في عمليات تهدد الأمن الإقليمي والقومي لألمانيا، ففي وصف توماس هالدنفانغ رئيس الهيئة الاتحادية لحماية الدستور، لهذه الهجمات قال "إن الأنشطة الاستخباراتية التي تقوم بها روسيا داخل ألمانيا، هي أشبه بتلك التي كان يقوم بها الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة"، مما يدخل على مدي خطورة العميات الاستخباراتية التي يقوم بها جهاز الاستخبارات الروسي داخل ألمانيا، ومن الدلالات على زيادة النشاط الاستخباراتي الروسي في ألمانيا:

● في ٢٦ أغسطس ٢٠٢٢، قامت روسيا بإجراء عمليات تجسس داخل قواعد عسكرية ألمانية على دورات لتدريب الجنود الأوكرانيين على أسلحة جديدة، ومن ضمنها واحدة تابعة للجيش الامريكي.

● في ٢٢ يوليو ٢٠٢٢، قامت الدول الأوروبية بطرد ٤٠٠ ضابط استخبارات روسي يعملون تحت غطاء دبلوماسي، من بينهم ٤٠ دبلوماسي روسي قامت ألمانيا بطردهم في أبريل ٢٠٢٢.

● ١٤ أبريل ٢٠٢٢، اتهمت ألمانيا طالب دكتوراه في جامعة أوغسبورغ الألمانية، بالقيام بعمليات تجسس لصالح الحكومة الروسية، ونقل معلومات إلي موظف في القنصلية الروسية في ميونيخ يعمل لصالح المخابرات الروسية.

● في ٤ أبريل ٢٠٢٢، قامت ألمانيا بطرد دبلوماسيين روس، بتهمة التجسس لصالح الاستخبارات الروسية.

كما صرح المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة أن الجرائم السيبرانية في ألمانيا قد وصلت إلى ١٤٣ ألف في عام ٢٠٢١، بزيادة بلغت ١٢٪ عن عام ٢٠٢٠، مما يدل على ضعف منظومة الدفاع الالكترونية في ألمانيا، وقد وضعت استراتيجية الأمن القومي حلولا لهذا الضعف، حيث ركزت الاستراتيجية على إنشاء مركز فيدرالي لمواجهة الهجمات السيبرانية.

على الرغم من أهمية تلك الاستراتيجية بالنسبة لألمانيا، وشمولها للمتغيرات الجديدة على الساحة السياسية الدولية، وتضمينها للعوامل الاقتصادية والثقافية التي تشكل تهديداً على الأمن القومي الألماني، إلا أن هذه الاستراتيجية يشوبها بعض الغموض فيما يتعلق بالأدوات التنفيذية لهذه الاستراتيجية، حيث لم تتطرق الاستراتيجية بشكل واضح إلي طرق تنفيذ هذه الاستراتيجية، كما أنه  في شمولها للإرهاب كمهدد للأمن القومي، لم تحدد بشكل دقيق مصادر تلك التهديدات الإرهابية، كما كشفت هذه الاستراتيجية عن الضعف الداخلي في الحكومة الائتلافية بين حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتمثل ذلك في الفشل في الاتفاق على إنشاء مجلس للأمن القومي على غرار المجالس في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

Getting Info...

إرسال تعليق

Cookie Consent
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.
Oops!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت والبدء في التصفح مرة أخرى.
AdBlock Detected!
لقد اكتشفنا أنك تستخدم المكون الإضافي adblocking في متصفحك.
تُستخدم الإيرادات التي نحققها من الإعلانات لإدارة هذا الموقع ، ونطلب منك إدراج موقعنا في القائمة البيضاء في المكون الإضافي لحظر الإعلانات.
A+
A-